كانت حرب غزة حاضرة بكاملها في مائدة عشائي هنا في إسرائيل، حيث كانت طبق المائدة الرئيسي في الأسبوع الماضي. فعادة ما كانت تبدأ كل الحوارات التي تدور في بيتي بعبارة "إنك لا تفهم ما يجري يا أبي" لتتواصل إلى القول: "فعندما كنت في عمري، كانت تقع حرب واحدة في كل عشر سنوات أو نحو ذلك، مع وجود أمل مستمر في انتهاء النزاع. أما أنا فعمري لا يزيد على 26 عاماً، وعلى رغم ذلك تحتفظ ذاكرتي الخاصة بذكريات خمس حروب وقعت خلال هذه السنوات القصيرة. ولا يكاد يمر علينا عامان إلا وتقع خلالهما حرب ما، وربما تليها حروب أكثر لاحقة. فهل لك أن تفهم ما يحدث"؟ كانت ابنتي تجهش بالبكاء وهي تقول لي ما قالته. فقد تم استدعاء زوجها الذي لم تمض على زواجها منه سوى ثلاثة أشهر لأداء الخدمة العسكرية، أو لنقل لإيذاء أحدهم أو قتله، أو ليُؤذى هو أو يقتل تحت كل الأحوال. فأجبتها بالقول: نعم أفهم يا ابنتي. فأنا أعلم أن حرب الأيام الستة في عام 1967، لم تكن سوى حدث استثنائي، استحال بعدها منذ ذلك الوقت على إسرائيل الفوز بحرب بذلك الاتساع. كما أعلم أن الصدمة النفسية الناتجة عن الحروب تثير مشاعر الخوف والكراهية في كلا الجانبين، وأن متاهة النزاع المستمر هذه سقتها دماء غزيرة. كما أدرك عجزي وعجز جيلي عن إحلال السلام الذي تتطلعون إليه. وأدرك كذلك أنه ليس مهماً بالنسبة لي البتة تحديد من الذى استل السيف من غمده أولاً، أو من الذي أشعل فتيل الحرب. فليس مهماً تحديد من تقع عليه مسؤولية شنها، بل تهمني جداً هوية ذلك الشخص القادر على إيجاد الحل، ورسم آفاق مستقبل لا يحكمه العنف ولا الموت. وبالنسبة للكثير من الإسرائيليين، فإن قطاع غزة هو أكثر من مجرد ترتيبات حدودية جغرافية، لكونه حالة ذهنية وواقعاً نفسياً قبل كل شيء. فمن وجوه عديدة شتى، لا يمكن وصف أطفال غزة سوى بكونهم أطفالنا على نحو ما. ذلك أنهم جميعاً أطفال اليأس مثلما هم أطفالنا هنا في إسرائيل. ولكي نفتح أمام عيونهم نافذة جديدة للأمل، فإن علينا أن نتفهم أولاً جذور الحرب ودوافعها. ففي القرون الماضية كان في وسع الشعوب والأمم تدبير الحروب وشنها لا لهدف آخر سوى استئصال العدو. ولكن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يبدو أن تغيراً جوهرياً عميقاً قد طرأ على ضمير العالم، فيما يتصل بالرغبة السابقة في استئصال أي فئة من فئات الجنس البشري أو محوها من الوجود. وفيما أعلم عن الغرب من خلال متابعتي للحروب التي شنت هناك في الحقب الماضية، فإنه لم يعد ممكناً تحقيق نصر ساحق للعدو بالآلة الحربية. ففي الماضي كان الهدف الوحيد للحرب مثلاً قطع رأس الفارس الفلسطيني "جالوت"، أو حرق "جان دارك"، أو محو هتلر من الوجود، أو سحق اليابان نووياً. أما اليوم فلم يعد في وسع الغرب الإعلان عن شن حرب يكون من بين أهدافها محو العدو. وتكشف هذه الاستحالة عن نفسها سواء في مستوى المبادئ والقوانين الدولية التي تحكم الحرب، أم في مستوى استعداد الجندي الغربي لارتكاب أفعال لا تنسجم وضميره الأخلاقي المدني. وقد نجم عن كلتا الحربين العالميتين، بما في الأخيرة من جرائم الهولوكوست التي ارتكبت بحق اليهود الأوروبيين، نشوء تغير جوهري على المبادئ التي تحكم الحرب. فبدلاً من سحق العدو وتجريعه مذاق الذل والهوان، يسعى نمط الحروب الحديثة إلى الحفاظ على قدرة العدو على إعادة بناء نفسه واسترداد كرامته الإنسانية، بما يمكنه من التحول من عدو إلى صديق. وهذا ما فعله الحلفاء الغربيون الذين دمروا كلاً من ألمانيا واليابان، بإعادة إعمار ما دمرته الحرب، بما فيه استرداد كرامة الشعبين الألماني والياباني، وتحويل هاتين الدولتين إلى قلعتين للحرية والديمقراطية شديدتي التحالف مع الغرب. ولكن ما مغزى الحروب التي تدور بين عدوين لا يشتركان في ذات القيم ومبادئ الحرية والديمقراطية؟ الأرجح أن يكون الهدف هو حمل العدو على العودة إلى طاولة المفاوضات. وفيما لو انتهت الحرب دون تحقيق هذا الهدف، يحق اعتبارها حرباً فاشلة بكل المقاييس. ومثلما شيدت جسور من قبل بين بيرل هاربر وهيروشيما، بين درسدن ولندن، وبين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية في دبلن، فلابد من تشييد جسر للسلام بين سيدروت وغزة. وكنت قد ذهبت في زيارة إلى سيدروت، حيث أملك مصنعاً هناك. فوقفت أمام المصنع وأنا أرقب صواريخ "القسام" التي تنهال على الضاحية، وكنت قد احتميت منها بصحبة كلب ضال في مبنى المصنع! وكنت أتأمل عبارات ابنتي وأبنائي الذين أتفهم صحة وجهة نظرهم وأنكر عليهم يأسهم وقنوطهم في ذات الوقت. فعلى رغم دوامة العنف وشلالات الدماء، إلا أن السلام لا يزال أقرب إلينا من حبل الوريد إن سعينا إليه. وأمام كثير من عيون الإسرائيليين المتحرقين شوقاً للسلام، يلوح إلهام فوز باراك أوباما وقدرة المرء على أن يحقق أقصى أحلامه وأمانيه. ولكن لكي يتحقق السلام، فإن علينا التخلص من الأصوليين المتشددين في كلا طرفي النزاع، لأنهم هم من اختطف الشعوب وعصف بآمالها وأحلامها. كما علينا أن نزيل عن عيون أطفالنا غشاوة يأسهم وندلهم إلى طريق النور وآمال السلام. أبراهام بورج ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس البرلمان الإسرائيلي سابقاً، مؤلف كتاب "نهاية الهولوكوست" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"